وَأُخْرِجَتْ جَنَازَتُهُ ووُضِعَتْ أَمَامَ السِّجْنِ عَلَى الْجِسْرِ بِبَغْدَادَ وَمُنادي السِّنْدِيِّ بْنِ شَاهِكَ يُصَيِّحُ:
هَذَا إمَامُ الرَّافِضَةِ فَإعرِفوهُ..
بدا ذلك الصباحُ رماديّاً.. والمارّة كانوا يعبرون الجسر بسرعة بسبب المطر.. ورجال الشرطة يتمركزون في مناطق حسّاسة.
كلّ شيء كان يُنذر بالخطر.. شائعاتٌ كثيرةٌ تحوم في سماء بغداد.. وفي الضحى، وفيما كانت السماء ما تزال تنثُّ المطرَ على هونٍ ، خرج نعش الشهيد موسى بن جعفر يحمله رجال الشرطة والجيش يتقدّمهم السندي مدير شرطة بغداد.. بدوا ببزّاتهم السوداء أسراباً من الغربان جاءت لتبشّر بزمن الخرائب.
الحشود السود تتجه صوب جسر الرصافة.. العابرون ينظرون بخوف إلى ما يجري.. الأحذية الثقيلة تهزّ الطرقات والسكك في طريقها إلى الجسر.. بدا دجلة حزيناً وأمواجه تندفع متلاحقة.. وقد امتدت جبهة النهر لتلتقي عند الأفق الغائم المُدْلهمّ.. فيما بدت أشجار النخيل أهدابَ حورية تبكي بصمت..
وصلت حشود الشرطة وهي تحفّ بالنعش إلى الجسر.. فجأة دوّت نداءات الجلاوزة:
ـ هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، فانظروا إليه ميّتاً!
كانت الشرطة في حالة إنذار قصوى تحسّباً للطوارئ، فقد يستفزّ هذا النداء بعض أهالي بغداد.. إن موسى يعيش في القلوب، سلطانه في القلوب والضمائر الحرّة..
السماء ما تزال تسحّ من دموعها الثقال.. ووجه الشهيد مكشوف للعابرين.. النداء يرتفع بين الفينة والأخرى.. العابرون فوق الجسر.. تجمعوا ينظرون إلى موسى.. ينظرون إلى آخر الرجال..
ينظرون إلى السيّد العظيم.. يا للوعة!!
أهكذا يرحل الرجال الصالحون ؟! سرت همهمة لا يُعرف مصدرها بعد. سرت الكلمات كالسحر تلاقفتها الآذان كخيال جميل..
ـ موسى لم يمت.. أُقسم أنّه ليس موسى بن جعفر.. لقد شُبّه لهم.. أما موسى فقد رُفع إلى السماء.. كما رُفع عيسى بن مريم. موسى لم يمت.. موسى ما يزال حيّاً..
السماء ما تزال تمطر.. والمطر ما يزال يغسل وجه الشهيد الراحل، ورجال الشرطة كأسراب الغربان ما تزال تنادي:
ـ هذا موسى بن جعفر.. مات الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت.. انظروا إليه.. إنه ميّت..
في الجانب الآخر من النهر.. وقريباً من الجسر على ضفاف النهر يرتفع قصر منيف.. إنّه قصر سليمان.. ( عم الخليفة )..
كان سليمان يطلّ عبر النافذة على النهر.. رأى ذلك الصباح الغائم.. رأى جموعاً غفيرة من لابسي السواد تحمل نعشاً فوق الجسر..
وفي كل مرّة كان النعش يوضع على الأرض بقسوة، وصيحات تتعالى في الفضاء.. والجثمان تغسله السماء.. تساءل سليمان عما يجري فوق الجسر! قال أحدهم وقد أحاط بما يجري خُبْراً:
ـ هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر.
ـ ينادي ؟!
ـ نعم سمعتهم يصيحون: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت.
ـ موسى يُنادى عليه هكذا.. يا لهوان الدنيا!
لا أحد يدري لماذا هبّ سليمان.. لماذا تفجّرت في أعماقه الثورة، صاح بأولاده المسلّحين:
ـ انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم، ومزّقوا ما عليهم من السواد.
وشهد الجسر عند الجثمان مشادّة بين رجال سليمان وبين الشرطة..
وجد رجال الشرطة أنفسهم عاجزين عن مقاومة عم ( الخليفة ) وأقوى شخصية في الأسرة العباسية بعد ( الخليفة ).
حُمل الجثمان إلى القصر المنيف، وبدأت على الفور مراسم الغُسل والكفن.. ولُفّ الجسد الطاهر بحَبرة فيها كتابات قرآنية.. وشهد أحدهم أن شاباً كان يشارك في مراسم الغسل والكفن، وكانت دموعه تهمل من عينيه بصمت.
احتفى سليمان لإعلان فجيعته.. وبدأ موكب التشييع يتحرك منطلقاً من القصر إلى الجسر.. وعلى جسر الرصافة دوّت نداءات كان سليمان قد أمر بها:
ـ ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيّب ابن الطيب، موسى بنِ جعفر، فلْيحضر.
الموكبُ الحزين يشق طريقه في أزقّة بغداد وشوارعها.
المطر ما يزال يتساقط كدموع اليتامى..
هبّ أهل بغداد.. هرعت المدينة عن بكرة أبيها لتشارك في موكب تشييع العبد الصالح موسى..
لم يبق أحد في منزله في ذلك اليوم المطير.. انتظم أهل بغداد في موكب جنائزي.. العيون تبكي وآهات تبحث عن السلام الراحل تتصاعد في الفضاء..
توقف الموكب في سوق الرياحين.. وحُطّ النعش فوق الأرض.. ليتحوّل ذلك المكان إلى بقعة طاهرة.. ونُثرت فوق النعش طاقات الرياحين.. فيما كان حملة مجامير العطور ينتظرون استئناف الموكب مسيرَه إلى مثوى الشهيد الأخير..
إرتفع النعش فوق الأنامل.. العيون تبكي، والقلوب صدّعها الحزن، والفجيعة تهزّ الأرواح.. لقد رحل السلام..
الموكب في طريقه إلى قنطرة قطربل.. حيث يتدفق دجلة عبر ممر مائي صغير..
الموكب يتجه إلى بقعة بين بساتين ( زبيدة ) ومحلّة باب التبن، حيث تنهض هناك بيوت الفقراء..
وفي مقابر قريش كان المثوى الأخير.. شُقّ ضريح الشهيد، ووُري الثرى المعطور.
وفي تلك البقعة حيث يمرّ دجلة بصمت.. وفيما كانت السماء ما تزال تبكي، والفضاء مفعماً برائحة الأرض المرشوشة بالمطر.. انبرى أحد المفجوعين لرثاء السلام الراحل:
ـ قد قلتُ للرّجل المولَّى غُسلُه
هلاّ أطعتَ وكنتَ من نُصحائِهِ!
وأزِلْ أفاويهَ الحنوط ونحِّها
عنه وحنّطْه بطيب ثنائِهِ
ومُرِ الملائكة الكرام بحملهِ
كرماً.. ألستَ تراهمُ بإزائهِ ؟!
لأ توه أعناقَ الرجال بحمله
يكفي الذي حملوه من نعمائه.
وشيئاً فشيئاً تفرّقت الجماهير.. عادت إلى منازلها في محلّة باب التبن، وفي مشرعة القصب.. وفي سوق الرياحين، وفي الشماسية.. وفي محلّة باب الكوفة، ومحلة الكرخ والرصافة والشرقية والحربية والخطابية..
أُقفر المكان تماماً ما خلا شابّاً ليس من أهل بغداد، كان يذرف الدموع، بينما السماء ما تزال تمطر بصمت
من رواية على الجسر ببغداد لكمال السيد ص ٢٧٥_ ٢٨١