ومن مميزات هذا الصراع أنّ فيه جولات عديدة كما قيل: (للباطل جولة وللحق دولة) وهي ليست بالضرورة أن تكون في مصلحة ونتيجة أهل الحق؛ بل إنّ! كثيرًا من هذه الجولات ينتصر فيها أهل الباطل (بالقياسات العسكرية المادية) حتى وصولنا للجولة الأخيرة من الصراع الذي سينتصر فيه الحق على الباطل بشكل نهائي.
إنَّ الصراع بين جبهة الحق وجبهة الباطل هو صراع عميق وحتمي وقديم أزلي رافق الإنسان منذ بداية الخلق، حيث بدأ أول ما بدأ في الحوار الذي جرى بين اللّه (تعالى) وإبليس (عليه اللّعنة) حينما رفض إبليس السجود لآدم (عليه السلام) وهو سجود تكريم كاعتراف منه بأفضلية آدم، ﴿قالَ ما مَنَعَكَ أَلّا تَسجُدَ إِذ أَمَرتُكَ قالَ أَنا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِن نارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طينٍ﴾ [الأعراف: ١٢] كما أنَّه ليس أبديّاً؛ حيث سينتهي هذا الصراع بانتصار الحق على الباطل انتصارًا نهائيّاً عند ظهور الإمام المهدي المنتظر (عج) على خلاف رأي العامّة حيث يرون أنّه صراع أبدي ينتهي يوم القيامة، والدليل على أنّه ليس صراعًا أبديًّا ما جاء في عدة روايات شريفة منها ما ورد عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السّلام) في تفسير قوله تعالى : ((والَّذِين يُصَدِّقُون بِيَوْم الدِّين )) قال : بخروج القائم وفي قوله عز وجل: ((قُل جاءَ الْحَق وزَهَق الْباطِل)) قال: إذا قام القائم ذهبت دولة الباطل) [١] إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج ٥، الحر العاملي، ص ٦٦
وجاء في (دلائل الإمامة) أخبرني أبو الحسن علي قال: حدَّثنا أبو جعفر، قال : حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود عن أبيه عن علي بن الحسن بن فضال قال: حدثني العباس بن عامر عن وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمار،قال سألت أبي عبد الله (عليه السلام) عن إبليس قوله : (( ربِّ فأنظِرني إلى يوم يبعثون قال فإنَّك من المُنظَرين إلى يوم الوقت المعلوم)) أيّ يوم هو ؟ قال : يا وهب أتحسب أنّه يوم يبعث الله ( تعالى ) الناس ؟ لا ولكن اللّه (عز وجل) أنظره إلى يوم يبعث اللّه ( عز وجل ) قائمنا، فإذا بعث الله ( عز وجل ) قائمنا فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم) [٢] دلائل الإمامة ص ٤٥٣
وهكذا بدأ هذا الصراع في الملأ الأعلى وتم إعلان من هو العدو الرئيسي في قوله تعالى لآدم وحوّاء ﴿فَدَلّاهُما بِغُرورٍ فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَت لَهُما سَوآتُهُما وَطَفِقا يَخصِفانِ عَلَيهِما مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَم أَنهَكُما عَن تِلكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَكُما إِنَّ الشَّيطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبينٌ﴾ [الأعراف: ٢٢] وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)) والعهد هنا هو أنّ الشيطان عدو له.
وبعد أن طلب إبليس(لع) من اللّه تعالى أن يعطيه الوقت والمهلة والفرصة لكي يثبت أنّ هذا المخلوق الذي فضّله عليه ليس بالمستوى المطلوب ولن يصل إلى مرحلة أن يكون عبدًا شكورًا (حسب مدّعاه) وكان القرار الإلهي أن يمهله (إلى يوم الوقت المعلوم) وهو يوم ظهور الإمام (عجّل اللّه فرجه)، فتوعد بعدة وعودات منها
١- ((وَلَأُضِلَّنَّهُم وَلَأُمَنِّيَنَّهُم وَلَآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ وَلَآمُرَنَّهُم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللَّهِ))
٢- ((لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم))
٣- ((لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شاكِرينَ))
٤- (( لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعينَ إلّا عِبادَك منهُم المُخلَصين ))
ومن مميزات هذا الصراع أنّ فيه جولات عديدة كما قيل: (للباطل جولة وللحق دولة) وهي ليست بالضرورة أن تكون في مصلحة ونتيجة أهل الحق؛ بل إنّ! كثيرًا من هذه الجولات ينتصر فيها أهل الباطل (بالقياسات العسكرية المادية) حتى وصولنا للجولة الأخيرة من الصراع الذي سينتصر فيه الحق على الباطل بشكل نهائي، ودائماً في هذا الصراع هناك طرفٌ يفتقد للقيم الإنسانية والدينية وقد استحوذ عليه الشيطان وهم أهل الباطل، والطرف الآخر يمثل القيم الإنسانية والسماوية وقد امتلأ وجودهم بالتقوى وهم أهل الحق، إضافةً إلى ذلك بأنّ أهل الباطل يعملون في هذا الصراع من أجل الدنيا ويتبعون الشيطان، وأهل الحق يعملون من أجل الآخرة ورضا الله سبحانه وتعالى.
إنّ أول جولة من جولات هذا الصراع هو صراع هابيل مع قابيل، فكان الأول يمثل جبهة الحق والثاني يمثّل جبهة الباطل، وكانت النتيجة في هذه الجولة للباطل حيث قام قابيل بقتل أخيه هابيل ((فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبحَ من الخاسرين))، وفي زمانٍ آخر تمثّل هذا الصراع في (أبو الأنبياء) النبي إبراهيم الخليل (عليه السلام) محطِّم الأصنام، وبين النمرود مصداق الطغيان والكفر والباطل، وفي زمانٍ لاحق تمثّلَ هذا الصراع في مواجهة النبي موسى (عليه السلام) مع فرعون الذي كان يمثل رمز التجبُّر والتكبُّر في قبال النبي موسى (عليه السلام) رمز العدالة والحق، وقد تميّزت مواجهة النبي موسى (عليه السلام) بالشمولية؛ إذ واجه جميع أئمة الضلال في مواقعهم المختلفة، فقد واجه السلطة السياسية المتمثلة في فرعون، وواجه
السلطة الدينية (المقصود هو استغلال الدين) المتمثلة في بلعم بن باعورا، والسلطة المالية المتمثلة في قارون، هذه الأصناف الثلاثة دائماً ما تقف في وجه الدعوات السماوية؛ لأنّها تعارض مصالحهم المادية الدنيوية واستمر هذا الصراع في الأزمنة المختلفة بين أمّة حزب الله وحزب الشيطان وامتد إلى مواجهة خاتم الأنبياء محمد (صلى اللّه عليه وآله) مع قريش، ومن بعده وصيّه إمام المتقين الإمام علي (عليه السلام) في مواجهته مع الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ثَم الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية إلى أن بلغ ذروة هذا الصراع في كربلاء.
وفي كلّ زمان هنالك قابيل وهنالك نمرود وفرعون وقارون وأبو سفيان و معاوية و ابن زياد و يزيد وشمر زمانه، فتكليف المؤمن أن يميز من هو معسكر الحق ومن هو معسكر الباطل، من هو يزيد عصره الذي يمثل محور إبليس، ومن هو حسين عصره الذي يمثل جبهة الحق والإيمان، وعلى المؤمن أن ينتبه إلى أنّ فرعون وقارون ومعاوية ويزيد زمانه قد يأتي بعنوان (صديق) ويغلّف نفسه بشعارات الحق فيُطلق على نفسه (المجاهد) و(الوطني) و(المؤمن) و(المصلح) وغير ذلك من الألقاب، ويُطلق على من يمثل جبهة الحق بـ ( الخائن) و(الذيل) و(المليشياوي) و(الإرهابي) إلى غير ذلك من المصطلحات.
يتعقّد المشهد السياسي والعسكري في عموم العالم وبالخصوص منطقة غرب آسيا، هذه المنطقة التي هي (منطقة حِراك العلامات) و تُعَدُّ النقطة المركزية للصراع الدولي والإقليمي منذ عقود؛ لأهمّيتها السياسية والاقتصادية والحضارية والأمنية حيث تستحوذ بلدان هذه المنطقة على أكثر من نصف احتياطيات مصادر الطاقة في العالم.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر منطقة غرب آسيا (أكثر المناطق الاستراتيجية أهميةً في العالم) و(إحدى أضخم الغنائم المادية في تاريخ العالم) وفقًا لما قاله المفكّر نعّوم تشومسكي.
من الناحية الاقتصادية والسياسية نحن نمرّّ تحديدًا في الأعوام التي سبقت الحربَين الأولى والثانية لكن بلحاظ أنَّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام (١٩٢٩) لا تمثل سوى زوبعة صغيرة بالنسبة الى الإعصار المدمِّر الذي ستمثله الأزمة الاقتصادية المرتقبة، وبلحاظ أنّ العالم اليوم يمتلك أسلحة نووية، وبلحاظ أنّ أقطاب العالم اليوم ليست في أقصى الشرق وأقصى الغرب؛ وإنّما هناك قوة ثالثة تخوض معركتها الخاصة
فهذا يعني أنّنا يجب أن نتوقع حربًا أقسى بكثير من الحربين الأولى والثانية، فإذن نحن مقبلون على حرب عالمية أخرى عنوانها (الصراع على شكل النظام العالمي الجديد) وكلّما ضعفت قيمة الدولار وزاد الدَّين العام الأمريكي وأصبحت كلّما اقتربنا من الحرب العالمية الثالثة.
لقد جاء انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران عام 1979 بقيادة فاتح بوابة عصر الظهورالإمام الخميني(قده) ليشكَّل انعطافة كبرى في مسار التأريخ المعاصر، فحملت إيران راية مقارعة محور إبليس و الاستكبار العالمي المتجسد بأمريكا (الشيطان الأكبر) وإسرائيل (الشيطان الأصغر) باستراتيجية عميقة الفهم للمشروع الاستكباري المعادي.
إنّ معركة طوفان الأقصى بين الكيان الإسرائيلي ومن خلفه أمريكا وكل دول الغرب الكافر، وبين محور المقاومة والتمهيد المهدوي هي من أوضح مصاديق صراع الحق والباطل، و نعتقد بأنّ آخر فصول الصراع في المنطقة ستكون بين راية الهدى الخراسانية والراية الأهدى اليمانية بمواجهة راية السفياني اللعين الذي سيأتي بدعم أمريكي غربي إسرائيلي، وهاتان الرايتان (اليماني والخراساني) ستكونان قوة إقليمية فاعلة في المنطقة و ستُفشلنان آخر المخططات والمشاريع التآمرية للمحور الماسوني الشيطاني في المنطقة وهو مشروع السفياني اللعين المدعوم غربيًّا، وهي قراءة مبنية على مقاربة بين الواقع السياسي والعسكري المعاصر وأحداث السفياني التي جاء ذكرها في الموروث الروائي
وهذه الجولة الأخيرة من هذا الصراع الطويل المحتدم ستكون مقدمة لقيام دولة العدل الالهي وستُحسَم لصالح المحور الممهّد (إن شاء اللّه) وندعو ونأمل أن يكون ذلك قريبًا،إنّهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.