من هو اليماني؟ وما اسمه ورسمه؟ وكيف تحدثت عنه الروايات الشريفة؟ وماهو تكليفنا تجاهه؟ مقال مهم يلخص اليماني الموعود ومنهجه ورايته ومحدداته.
على خلاف شخصية السفياني والخراساني يمكن القول بأنّ الجانب الشخصيّ لليمانيّ الموعود أحيط بغموض تامّ ــ وكأنّه متعمّد ــ في روايات أهل البيت (عليهم السلام)،وذلك على النقيض من جانبه العقائديّ والعمليّ،فلقد تمّ تسليط الضوء بشكل واضح على شخصيته العقائدية والمعنوية،فهو أهدى الرايات، ويدعو إلى صراطٍ مستقيم،ويدعو إلى صاحبكم،ولا يجوز الالتواء عليه وما إلى ذلك من الصفات التي تظهر تكوينه العقائديّ والمعنويّ،وعين هذا الأمر نلحظه في شخصيته الميدانيّة والعمليّة؛فهو والسفيانيّ والخراسانيّ يخرجون في سنة واحدة وفي شهر واحد وفي يوم واحد،وهو والسفيانيّ،كما هو والخراساني يتحركون كما تتحرك أفراس الرّهان مع بعضها باتجاه الكوفة،وهو يحرّم بيع السلاح،ويتحالف مع الخراسانيّ لحرب السفيانيّ،ويهرب جيش السفيانيّ المقتحم للكوفة من جيشه وجيش الخراسانيّ بمجرد اقترابهما من الكوفة،لينتهي الأمر بجيش اللّعين السفيانيّ إلى الإبادة قريباً من جنوب بغداد شمال مدينة الحلّة،وما من ريب أنّ هذا الأمر ــ أي التفصيل في جانب والغموض في جانب آخر ــ لم يحصل صدفة، وفي تقديري أنّ الروايات ربّما راعت عدم التسبّب بكشفه قبل حيان تبلور جيشه وقوّته واقتداره؛لأنّه حسب الظاهر ليس صاحب دولة فيحتمي بها.ومن يلحظ طبيعة الوصف العقائديّ لهذا الرجل ورايته وطبيعة الانعكاس الذي ينتظر من الواقع الاجتماعي تجاهه يعرف تماماً أنّها تقدّم إغراءً كبيرًا باتجاهات متعددة،فهي بالنسبة للمنحرفين وأصحاب الأهواء وأدنياء النفوس تمثّل شخصيّة لها وقعها الواسع على العواطف الشعبية لمجتمع المنتظرين،ولذلك فإنّ انتحال أيّ شخصية لهذا المقام من شأنّه أن يؤدّي إلى التفاف قدر من أصحاب هذه العواطف حول هؤلاء المنتحلين والأدعياء، ممّا سيمكنهم من التزعّم عليهم وقيادتهم باتجاه أغراضهم المنحرفة، واطلالة صغيرة على ما فعله بعض المنحرفين من قبيل دجّال البصرة أو من يسمّي نفسه بالقحطاني وغيرهم ممّن أعلن وممّن أخفى ذلك أن تعرّفنا على ما يمكن لمواصفات اليمانيّ أن تقدّمه لهؤلاء المنحرفين في الأوساط الجاهلة رغم عواطفها الساذجة، وبالاتجاه الآخر يمكن ملاحظة الواقع الديني في القواعد المنتظرة التي تحدّثت معها الروايات بمنطق محبّب لهذه الشخصية في وقت تحدّثت هذه الروايات عن كثرة الفتن والانحرافات والسقوط،ولذلك لا مندوحةَ أمام هذه القواعد من أن تجد في اليمانيّ مخلّصاً لها وهاديًا موثوقًا في طريق انتظارها عشيّة الأيام الأخيرة من ظهور الإمام المنتظر (أرواحنا فداه).ومع أنّ خاصيّة غموض جانبه الشخصيّ تشكّل عاملاً له أهميته الجادة في أيّ محاولة لتشخيص هويّته،وفيها من الدلالة لمتتبعي علامات الظهور الشريف بحيث تحرسهم من السقوط في مهاوي الأدعياء وتغرير الكذّابين وأدنياء النفوس المسترزقين على حساب عواطف الناس وتديّنهم، غير أنّ ذلك لا يمكّن أن يمثّل حصانة مستديمة خاصة وأنّ طبيعة حركة العلامات والضغوط النفسيّة المترتبة عليها واشتعال القلوب بالوجد والشوق لإمامها يجعل بعض المتحمّسين والعاطفيين يتخلون عن حصون الوقاية فينساقون إلى طلب هذه الشخصية بناء على عوامل لا أساس لها في منهج أهل البيت عليهم السلام، أو من خلال التقاط بعضاً من الصورة وتكبيرها لتشكّل لهم ذريعة تثري قناعتهم بأنّ من يقصدونه هو اليمانيّ الموعود!غير أنّي أعتقد أنّ أئمة الهدى (عليهم السلام) وضعوا لكلّ أمر يتعلّق بهداية المؤمنين لا سيّما في زمن الخطوب والفتن منهجاً يقيهم من أن يتعثّروا أو يزلّوا بعيداً عن الهدى الذي رسموه لهم،ولكن للأسف جرت العادة على قراءة ألفاظ رواياتهم دون الالتفات إلى أعماقها وما يترتّب عليها والتي تمثّل في واقع الأمر منهج أهل البيت (عليهم السلام)وأهدافهم في قضايا الانتظار وما يتعلّق به،ولهذا سأعمد هنا إلى تسليط أضواء سريعة على ذلك، والتي اعتقد أنّ من شأنها أن تعرفنا على هذه الشخصيّة بطريقة مأمونة.بداية لا بدّ أن أشير إلى أنّ تأريخنا وعصرنا عرّفونا على أنّ مجرد الحديث بالمعارف العقائديّة ــ مهما كان سليماً ــ لا يمكن أن يقدّم ضمانة موثوقة عن هدى المتحدّثين، فلقد مرّت بنا نماذج كالمغيرة بن سعيد العجليّ وكمحمّد بن أبي مقلاص الأسدي،وكالأفطحية الذين رأوا في عبد الله ابن الإمام الصادق عليه السلام إماماً عوضاً عن الإمام الكاظم عليه السلام، وكالواقفة الذين كان زعماؤهم وكلاء للإمام الكاظم (عليه السلام)،وكِلا الفريقين فيهم أعدادًا مهمّة من العلماء والمتقدمين في مسار الدفاع عن الإمامة،وكمحمّد بن عليّ بن أبي عزاقر الشلمغانيّ وغير هؤلاء الذين كان لهم قصب سبق عقائديّ ولكنّهم سقطوا في نهاية المطاف وضلّوا وأضلّوا اللهمّ إلّا من أدركته الهداية والتوبة كبعض الفطحية والواقفة،وفي زمننا هناك نماذج متعددة جلّلت لفترة خدماتها، ولكنها خرجت عن خط الهدى وحاولت ولا زال بعضها يحاول إخراج الناس من الهدى إلى الضلال، وعليه فكون اليمانيّ (يدعو إلى صاحبكم) لا تعني أنّ نكتفيفي التشخيص بمن يدعو للإمام (صلوات الله عليه) ينطبق عليه الوصف ليشجّعنا على التشخيص باتجاهه،فالكثير من الأدعياء لن يفوتهم ذلك، ولذلك غالبية حديثهم يخلطونه بالحديث عن الإمام (أرواحنا فداه)،وادّعاء الغيرة عليه.كما أنّ الحديث عن أنّه أهدى الرايات وأنّه يدعو إلى صراط مستقيم لا يمكن تلمّسه من مجرد الكلام؛لأنّه ينطوي على جانب يرتبط بزكاوة النفس وطهارة القلوب وصفاء النوايا وهو أمر لا يمكننا أن ندّعي أنّه من الأمور التي يسهل التوصّل إليها،بل على العكس لأنّه هذه المساحة من اختصاص المعصوم (صلوات الله عليه)من بعد الله (جلّ وعلا).علاوة على أنّنا نتحدّث عن شخصية تبعد عن الظهور الشريف أشهراً قليلة جداً،وبالتالي فإنّ أي تشخيص في هذا الاتجاه يستلزم أن نشخّص وقت ظهور الإمام (أرواحنا فداه)،وهو أمر لا يمكننا فعله بتاتًا،يضاف إلى كلّ ذلك أنّ الرجل إن كانت دعوته خالصة للإمام(أرواحنا فداه) كما يتبدّى من نص الرواية،فإنّه يسلب منه إمكانية التحدّث عن نفسه؛لأنّه إن دعا لنفسه خرق قاعدة دعوته للإمام (صلوات الله عليه)،وحتى لو تحدّث عن ذلك على فرض أنّ دعوته لنفسه هي في طول دعوته للإمام (روحي فداه)،فكيف سيثبت لغيره أنّه هو اليمانيّ؟ بل كيف يثبت لنفسه أنّه هو المقصود بالتوصيف الروائيّ،فإن كان أهدى الرايات فلا شكّ أنّه سيكون متورّعاً في مثل هذه الأمور، وبالتالي سيجد نفسه خالياً من الدليل العلميّ والموضوعي الذي يجعله يطمئن إلى حكمه هذا،وعلى فرض أنّه رأى رؤية صادقة في هذا المجال أو أنّه رأى الإمام (أرواحنا فداه)وأخبره بذلك،ومع إمكانية حصول ذلك كاحتمال ولكن ما هي الحجّة التي تجعل المنتظرين يقبلون قوله كحجّة بينهم وبين الله تعالى؟ ولا نحتاج إلى طويل تأمّل لنعرف أنه حتى لو توفّر بين يديه هذا الدليل، فإنّه لن يستطيع التحدّث عنه مع الآخرين، كما أنّ الآخرين ليسوا ملزمين بالقبول منه مهما بلغ شأنه، فلا تغفل!وبناءً على كلّ ذلك أجد أنّنا أمام شخصيّة تأتي في المستقبل،ونحن لا نعرف لها شكلاً ولا وصف لشكل ولا إسماً ولا رسماً،وشخصية من هذا القبيل لا يمكن التعرّف عليها بطريقة علميّة وموضوعيّة من خلال مجرد التوصيف العقائدي أو المعنوي، كما أنّ ما يحاول البعض ــ منحرفاً كان كدجّال البصرة أو صادقاً بريئاً ــ أن يقدّم طريق الرؤى والأحلام كسبيل للتعرّف على هذه الشخصيّة، لأنّ طريق الأحلام والرؤى مهما كان الرائي لها صادقاً وموثوقاً لا يقدّم أيّ حجيّة يمكن الاستناد إليها شرعاً،علماً أنّ إمكانية التلاعب بالأحلام والرؤى من قبل قوى متعددة نفسية وما ورائية هو أمر قائم وملموس،خاصة وأننا لا نعرف من يحدّثنا في هذه الرؤى، حتى لو قال بأنّه هو الإمام المهدي (عليه السلام)،إذ إننا لا نعرف للإمام المنتظر (عليه السلام) شكلاً ولا رسماً، فكيف نطمئن بأن من رأيناه هو الإمام وليس عدوّه؟ مع لحاظ أنّ رواية من رآنا فقد رآنا فإنّ الشيطان لا يتمثّل بنا لا تصحّ إلّا عند من يعرف شكل المعصوم عليه السلام فإنّ الشيطان لا يستعير أشكالهم (بأبي وأمي)،أمّا من لا يعرف شكلهم ورسمهم كيف يمكن أن يدّعي أن من رآه هو المعصوم (عليه السلام)؟ وبعبارة: لا يعني مجرد الادعاء بالنسبة للرائي أنً من يتحدّث معه هو الإمام المعصوم أن يكون المتحدّث مصدّقاً، لأنّه يمكن للشياطين والسحرة أن يتلاعبوا بهذه الأمور بمنتهى السهولة، فانتبه!ولا يبقى لنا من بعد كلّ ما مرّ إلّا القول بأنّ أيّ دليل علميّ على تشخيص هذه الشخصيّة وتعيينها قبل حيان عملها الموصوف روائياً منعدم بصورة عامّة في المنهج المقرر لنا من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)،ولا سبيل للتعرّف عليه إلّا من خلال نفس العمل الذي سيؤديه متزامناً مع حراك السفياني والخراساني باتجاه الكوفة كما حدّثنا عنه أئمة الهدى (عليهم السلام)،أمّا قبل ذلك فادّعاء إمكانية التشخيص العلميّ دونه خرط القتادّ.وحتى لا يقول القائل: إذا كان شأن تشخيص الرجل بهذا العسر قبل حيان ظرفه العمليّ، فكيف نستطيع أن نطمئن إلى أننا نسير على الهدى في زمن الفتن والانحرافات والبلايا التي وصف فيها أنّه سيسقط من كان يشقّ الشعرة بشعرتين؟أقول: دونكم الوصف العقائديّ للرجل قبل حيان عمله فاقتدوا به،فاجعلوا دعوتكم للإمام (عليه السلام) لا لغيره نبراساً، وكونوا من متلمّسي الصراط المستقيم،ولئن كان الرجل من أهدى الرايات فكونوا هداة،وهذه الكلمة تعني من الناحية العملية سلامة المعتقد الاماميّ بشكل تامّ، وسلامة الالتزام العملي بهذا المعتقد،ولا سلامة في ذلك إلّا من خلال أن يكون الإنسان مرجعيّ الالتزام، فالمرجعية هي الأمر الذي أمرنا بالالتزام به في زمن الغيبة، والالتزام بها هو الحصن الذي يقينا من انحرافات الزمن العسير، وكونوا في أعمالكم ممن يبدي الغيرة على دينه ومعتقده وشيعة إمامه وإحياء أمره،وكونوا على بصيرةٍ من أمر زمانكم،فما كان الرجل ليحارب السفياني وينتفض لصرعى الكوفة وبغداد،وما كان له أن يقصر دعوته على إمام زمانه دون غيره إلّا لبصيرة نافذة لديه.
بقلم// الباحث في الشأن المهدوي سماحة الشيخ جلال الدين الصغير