واجبات المنتظرين في زمان غيبة القائم المهدي(عجّل الله فرجه)
العلّامة سماحة الشيخ جلال الدين الصغير
الحديث عن الانتظار مفهومًا وكيفيّةً لا زال يجتذب الكثير من النقاش والجدل،ولا غرابة من أن يتحوّل في بعض الأحيان إلى حالةٍ من حالات العصبيّة والتحزّب،فالموضوع يتعلّق بمنصّتين على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية،ولا نبالغ لو قلنا أنّهما يتعلّقان بأهمِّ محاور التديّن والإيمان؛فلقد عرّفت الروايات انتظار الفرج بتعريفات عظيمة فهو أعظم الأعمال وأحسن الأعمال وأفضل الأعمال وأحب الأعمال إلى الله،وأمثال هذه الأوصاف لا يستطيع الإنسان المؤمن الحريص على دينه وعاقبته أن يغض النظر عنها،كما أنّ هذا العمل الذي وصف بهذه المنزلة العظيمة متعلّق من حيث المآل بالإمام المنتظر (أرواحنا فداه)،وهذا التعلّق لا يمكن للإنسان المؤمن أن يتغاضى عنه ولا يجتهد بإيفاء الحقّ المترتب عليه تجاهه.ومن الواضح أنّ المؤمنين كان لهم اهتمامهم عبر العصور بهذا الأمر ممّا انعكس في المدونات الكثيرة التي اقتربت بصورة أو بأخرى من المفهوم وتطبيقاته على الرغم من تفاوت الوعي والإدراك فيما تمّ تناوله منه، وليس بخافٍ أنّ الاهتمام بهذا الموضوع قد تنامى إلى حدٍّ كبير خلال السنوات الأخيرة لأسبابٍ منها علمية وأخرى موضوعية،ولستُ بصدد التعرّض للحديث عن هذه الأسباب، ولكن يمكن تلمّس الأثر المترتب على ذلك من خلال طبيعة اللّهفة في قلوب الكثيرين للقيام بأيِّ عمل من شأنه أن يحقق لهم وصلاً بمعشوقهم المهدي (عليه السلام)،وإن كان هذا طبع فئة من الناس،فإنّ التساؤل عن كيفية تحقيق الانتظار الذي يرضاه الإمام (عليه السلام) ويريده هو الذي يمكن ملاحظة تسيّده على عقول وقلوب المتطلعين لهذه القضية، وهذا السؤال ليس بجديد فكثيرًا ما تمّ التحدّث عنه عبر مدونات العلماء،ولكن يلاحظ أنّ الأجوبة تعددت وأصبحت أكثر إلحاحًا من ذي قبل،مع ملاحظة أنّ الإجابات القديمة ما عاد بعضها بشافٍ خاصّة وأنّ الظروف التي أصبحت عليها المجتمعات المنتظرة تختلف عمّا كانت عليه من قبل،سواء أكان في مستوى وعيها وإمكاناتها،أو في موقف عدوّها منها، وإدراكها لمكامن العداوة ومصادرها وأساليبها، وأيُّ إطلالةٍ على الواقع الذي يعيشه العراق ولبنان وإيران كأمثلة منذ عقدين يجد طبيعة الفارق الكبير الذي يسم الواقع الاستراتيجي وتوجهاته في هذه البلدان،في عين الوقت الذي يمكن ملاحظة أن واقع نفاق الأعراب في المنطقة والأمريكان والصهاينة وسائر الأعداء التقليديّين هو الآخر قد شهد تغيّرات عميقة جداً خلال نفس الفترة،وما من جدل حول أنّ سُلَّم الصعود في مسارات الوعي والبصيرة والمَكَنة والقدرة والقابلية على الصبر الاستراتيجي وارتفاع إحساس المسؤولية الذاتية وغيرها من العوامل التي تحكي عن أسس متينة للتحوّل الحضاري قد وسم مسار المجتمعات التي تمثّل الحاضنة الأساسية للمشروع المهدوي؛في وقتٍ كان الاتجاه الآخر يسجّل في جعبته الحضارية سيرًا دؤوبًاً ومثابرًا عبر سُلّم النزول،وأخذ يفقد خياراته بالتدريج بحيث ما عاد بالاتزان الصوري الذي كان عليه،وها قد رأينا كيف أنّ أمريكا تفقد نفوذها بصورة دراماتيكية بالعراق ولبنان بعد أن فقدته في إيران،وهو ليس ببعيد عن شأنها في سوريا والآن امتدّ الأمر إلى دول الخليج، وها هي دويلة الكيان الزائل تفقد مقوّمات غطرستها وتعترف بانهيار قوى ردعها، والأحداث الأخيرة أثبتت أنها تحسّ وبشكل متزايد بأنّها تجرّد من أسلحتها بسبب المحور الشيعي وحلفائه وما يفعلونه بها،وليس أمرّ حلف الأعراب ببعيدٍ عن ذلكم فهو الآخر يفقد قدراته بسبب الفشل المستمر في العراق واليمن ولبنان وسوريا وإيران،ولهذا فإنّ هذه الحالات بما فيها من قدرة على بناء أسوار القوّة والمَنَعة وبما فيها من هدمِ أسوارِ الضعف والاستضعاف،وكلّ ذلك كفيل بإثراء البحث عن إجابات على الأسئلة الملحّة في هذا الجانب، وعلى رأسها السؤال عن كيفية التعامل مع القضية المهدوية باعتبار أنّها هي المستقبل الموعود.بطبيعة الحال لا غرابةَ في أن تتعدد المناهج التي تتناول هذه القضية،لا سيما أنّ حديث أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الجانب تناول الأمر بطرق ومستويات متعددة،وليس ذلك إلّا لأنّ طبيعة مستويات المتلقين لهذا الحديث من حيث الإدراك العميق وغيره، والاستيعاب التام وغيره هي في الأصل متفاوتة،ولهذا لم يوقف النص الوارد في هذا المجال نفسه عند نمطٍ واحد من هذه المستويات،ولكنّه كان سهلاً ممتنعاً لكل المستويات شأنُهُ في ذلك شأن كلّ نصوص أئمتنا (عليهم السلام)،دون أن يمنع ذلك من وجود الخطاب الخاص وما هو أكثر خصوصية منه، ولهذا جوبه السؤال عن المهام والتكليفات المتعلقة بزمن الغيبة بأجوبة متباينة،وفي الغالب لم تنظر الكثير من هذه الأجوبة طبيعة ما يمكن أن تُفضي إليه التغييرات السياسية والاجتماعي والأمنية التي تحصل في الواقع الاجتماعي من مترتبات وتداعيات،فجاءت الأجوبة كوصفة جامدة يراد منها أن تعمم على كلّ الحالات.ولكن من الواضح أنّ الوجود الشيعي بناءً على طبيعة توجيه المعصومين (عليهم السلام) تمّ وضعه في مسارٍ من شأنه أن يُراكم بالتدريج مظاهر القوة ومصاديقها،ويعزّز أُسس الاقتدار وتفاصيله بصورة دؤوبة دونما إعلان،ولربّما يشرك الكثيرون في إشادة هذه الأمور بدون وعيٍ منهم إلى مرامي ما يفعلون،وكمثالٍ عمليّ نحن نلاحظ أنّ التوجيه المعصوم لزمان الغَيبة أن يرجع المنتظرون إلى الفقيه الصائن لدينه المتّقي لربِّهِ،وهذه القضية وإن بدت للوهلة الأولى عملية يراد منها تأمين الجانب الفقهي في مسارات هؤلاء، ولكن الواقع أفضى بشكلٍ تلقائي إلى وجود مؤسسة راسخة الطود في الوجود الاجتماعي نسميها اليوم بالمرجعية؛ وهذه المرجعية التي عاشت أدوارًا متعددة عبر مرور الزمان،أفضت إلى وجود قواعد شعبية تطيعها وتتلقى منها وهي تتعاظم بالتدريج، وللمثال يمكن لنا أن نتلّمّس الفارق بين مرحلتين أوّلها الفتوى التي أصدرها المرجع الشهيد الصدر (قدس سرّه)بالجهاد ضد النظام البعثي الحاكم والتي لم تحظَ بالالتفاف الكافي لتحويلها كموجٍ اجتماعي ينفّذ ذلك، بالرغم من وجود جماعات كثيرة لبّت النداء، ولكن الظرف الأمني والسياسي وطبيعة الوعي الاجتماعي لمهمة مجابهة العدو وقفت بالضد من ذلك، فلم تترك ذلك الأثر السريع على الواقع لتغيّره،على عكس الفُتيا المباركة بالجهاد الكفائي للمرجع الديني الأعلى السيد السيستاني (دام ظله الشريف)،والتي وجدت استجابة فورية عارمة من الجمهور لاختلاف ظروف الوعي والشعور بالمسؤولية وواجبات معرفة العدو،وهو نفس الأمر الذي وجدناه في إيران،ففي عام 1965 حينما أصدر الإمام الخميني (قدّس سرّه) موقفه في المدرسة الفيضية ونشأت انتفاضة الخامس عشر من خرداد سرعان ما قُضيَ عليها، ولكن نفس هذه الحركة حينما تكررت مع تبدّل ظروف الوعي والالتزام رأينا كيف أنّها أطاحت بنظام الشاه المقبور وحققت الانتصار المذهل لحراك المرجعية هناك،بالرغم من أنّ ظروف تاسوعاء وعاشوراء (1978 م) كانت أقسى بكثير من ظروف حزيران(1965 م) والفارق تراه في طبيعة التزام الناس بما نصّ عليه الإمام المعصوم (عليه السلام) بالفقيه الصائن لدينه،وممّا لا شكَّ فيه أنّ الذين ركبوا عجلة الموت في فُتيا الإمام الخميني كما في فُتيا السيد السيستاني فحققوا الانتصار العظيم إنّما كانوا قد قبلوا ذلك بسبب نفس النصّ الذي يعتبرونه ملزمًا لهم أمام الإمام المنتظر (أرواحنا فداه)،وهذا الأمر يسري من بعد ذلك على كل مجتمعاتنا وحواضرنا الاجتماعية مع كل مخرجات النصوص الموجهة للواقع الاجتماعي،فمن ينظر إلى حديث الإمام الصادق (عليه السلام) بشأن زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)مشيًا على الأقدام لا يمكنه فهم مغازيه إلّا أن يرحل من عصر النصّ إلى يومنا هذا ليلاحظ الأثر الاجتماعي الذي تراكم فتحوّل إلى سيل مليوني عالمي هادر في زيارة الأربعين؛والأمثلة كثيرة جداً لا يمكن لحيز المقال أن يستطرد أكثر في مجالها.إنّ ممّا هو واضح أنّ النصوص المعصومة لها غايات حقيقية في إيجاد الموج الجماعي في الأمة،وهي خططت منذ البداية للوصول إلى ذلك، عبر دعوات بدت للوهلة الأولى بعيدة عن التصويب الأخير باتجاه الهدف، ولكن يمكننا ان ندرك أي فاصلة في التراكم الاجتماعي التي فصلت ما بين قولهم: (أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا)،وما نلاحظه اليوم من موجٍ اجتماعيّ هادرٍ في هذا المجال،وعليه فإنّ من الواجب تجريد هذه الروايات من بعدها اللّغوي الجامد فحسب وتحويلها إلى ما يمكن التعبير عنه بالبعد الثلاثي الذي يتعدّى زمن النص وألفاظه إلى أن يكسي النص الأعماق التي يبتغيها ويؤسس لها،بالرغم من إيماني بأنّ الأعماق التي نسبرها بوعينا ربّما تبقى أقل غورًا من الأعماق التي هدَفَ إليها النص المعصوم في منتهى بغيته وهدفه.وعندئذ يمكن لنا أن نقول بأنّ تفاوت مناهج الانتظار لا يعود إلى وجود نصّ وعدمه على هذا المنهج أو ذاك،فكلّ المناهج التي تعمل تحت إطارٍ من الهدى المرجعي تبقى مؤمّنة من حيث الاستناد بطريقة وأخرى إلى النص المعصوم؛وإنّما في طبيعة العمق الذي يكمن وراء هذا النص وملاحقة الآثار الاجتماعية المترتبة عليه، ولو حصل ذلك فإنّ المطلوب بشكلٍ تلقائي التعامل مع مخرجات هذه النصوص بطريقة تراعي تبدّل الظروف والمعطيات الاجتماعية،ومن الخطأ بمكان أن ننظر إلى أمور القرن الخامس عشر الهجري ومعطياته وفق منطق القرن الثاني أو الثالث الهجري أو غيره من القرون وصولًا إلى ما قبل تحول الرّكام الاجتماعي الذي أفرزه النص من الكم إلى الكيف وما أدّى ذلك إلى تحوّل الحواضر الاجتماعية من حالة الاستضعاف إلى حالة العزة والمَنَعة،وهو أمرٌ ليس ببعيد في جوهره حتى مع الأحكام الشرعية حينما نلاحظ التفاوت في واجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناءً على مقتضيات القدرة والمَكَنة من عدمها، فالواجب يتعطّل حينما لا تكون هناك مَكَنة وقدرة،ولكنّه يتعزز ويتم التأكيد عليه حينما تتواجد هذه المَكَنة وتلك المنعة.وعليه فإنّ مهام المنتظرين في يومنا هذا يجب أن تلحظ كلّ المتغيرات سواء في واقعنا الاجتماعي وما أفضى إليه من وجود مقدرات وقابليات وإمكانات،أو في واقع عدوّنا من جهة ضعفه وتشتته،ومن ثمّ فإنّ الانتظار لن يعنى بنمطٍ واحدٍ من أساليب الاستعداد والتمهيد فتربية النفس وتهذيبها، وإعداد الجماعة الصالحة، والسعي لبناء المجتمع الصالح، والفاعلية في التواصل الاجتماعي،والتصدي في الثغور العقائدية والفكرية والمعنوية والاجتماعية والأمنية،والسعي للوصل إلى المنعة الاقتصادية والسياسية وما إلى ذلك كلها مهمة، وإن كانت بطبيعتها تتفاوت قابليات الناس على التعامل معها،ولكنّها كما الواجب الكفائي من بلغه أسقطه عن الآخرين،ومن لم يبلغه يتسبّب بضررٍ على الجميع، وبالتالي فإنّ تعلّم الناس على الفروسية واستخدام السلاح كما هو المأثور عند الكثيرين ممن يفهم الانتظار بهذه الحدود ليس هو الواجب الحصري،وقد لا يصلح لأزمان كثيرة، وقد يتفوق عليه الجهاد المبني على التعريف بالعدو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المقروءة أو المسموعة أو المرئية،وهذا الآخر قد يلزمنا بأعمال عديدة لا علاقة مباشرة لها في سبل المواجهة المألوفة،فالجهاد السيبراني الذي يجري في كواليس بعيدة بات اليوم مطلوبًا في العديد من الجهات وهكذا.وخلاصة ما أُريد التأكيد عليه بأنّ واجبات المنتظرين لن يحصرها حاصر،ولن تتأطّر بإطار محدّد؛وإنّما هي واقع متحرّك يتمّ من خلاله تأمين كل الاحتياجات المطلوبة لإيجاد المجتمع المناصر للإمام (أرواحنا فداه)،فتارة عبر الفكر،وأخرى عبر التهذيب،وثالثة عبر المنافحة والدفاع،ورابعة عبر وسائل البناء وخامسة وسادسة وهكذا.